0


هادي جلو مرعي

من المؤكد أنه مات من زمن بعيد. كانت عيادته في بغداد الجديدة التي لم تستهو الناس كما تفعل بغداد العتيقة. هي حافلة بالمحال التجارية والسيارات والمارة والزحام والحرارة العالية في الصيف شديد القرف. هناك الكثير من العيادات، ربما أكثر من المحال التجارية، وهناك أطباء بعضهم يملكون الخبرة، وآخرون يشقون طريقهم للتو، ولكنهم جميعا يضعون لوحات تعريف مكتوب عليها إسم الطبيب وإختصاصه، وتسبق الإسم كلمة دكتور، وعلى أية حال فهم يستحقون لأنهم ينقذون حياة كثير من الناس الذين يعانون المرض. 

كنت في السادس الإعدادي، وكنا للتو خرجنا من الكويت، والعالم كله يوجه لنا الصفعات، وكانت اشدها صفعة الحصار والجوع الذي داهم العراقيين بقرار من جورج بوش الأب، ولم يكن الكثيرون يملكون الرغبة في الحديث عن قضايا الأمة التي أصابتها علل لاحصر لها، ولاوصف أطاحت بالآمال، وغيرت مسار جيل بأكمله، ودفعته الى اليأس الراتب، والشعور باللاجدوى والضياع، وعدم القدرة على تخطي المشكلات التي تتناسل في المدن العربية، وقصور حكامها الذين يشعرون بكل شيء إلا معاناة شعوبهم التي ترزح في الفقر والحرمان والشقاء. 

كانت بغداد الجديدة في العام 1992 تشبه بقية العراق حيث الحصار يقترب مثل غيمة سوداء تظلل كل شيء، وتملأ النفوس بالرعب، وكانت عيادة الطبيب عفبف منصور في الطابق الثاني من المبنى، وكان المراجعون من المرضى قلة في ذلك الصباح حين دخلت عليه، ووجدت عنده عجوزا من المحتم أنها ميتة الآن وإبنتها، ولاأتذكر أي واحدة منهما كانت المريضة لكنني أتذكر حوار الطبيب معي، وسؤاله الذي يتطلب إجابات محددة وواضحة ليتسنى له كتابة الوصفة الناجعة لي. 

جلست قريبا منه، كان شيخا طاعنا تقاعد من سنوات طويلة، وظل في عيادته يستقبل عددا محدودا من المرضى الذين يأتون، وقد دفعهم الألم للتوسل بعلاج يخفف عذاب أرواحهم. سألني مابك؟ قلت: أنا أفكر في قضية فلسطين والظلم الذي وقع على شعب هذا البلد. وبهدوء نصحني بالهدوء، وأن اكمل حياتي، فالعمر كما قال في أوله وقضية فلسطين لاتشيخ، وستكون هناك المزيد من الاحداث، وعلينا بالصبر. قال: إنتبه لدروسك، وفلسطين ستكون بإنتظارك. فهي كالبنت الحلوة التي لاتشيخ.

إرسال تعليق