الدكتور مهند العزاوي*
شكل العراق على مدى عقود مضت الرقم الرابع في معادلة التوزان الإقليمي في الشرق الأوسط وفقا لقاعدة (توازن التوافق والاضداد) نظرا لما يمتلكه من مؤهلات جيوبليتيكية تضمن استقرار الإقليم وبسط الامن والسلم الدوليين , وتبرز في اللوحة الاستراتيجية ظاهرة الفوضى المركبة وتنامي الدول الفاشلة والجماعات الفاعلة الغير حكومية ( الكيانات الموازية ) مما وسع ظاهرة (الحرب المركبة) في مناطق الاهتمام الدولي كالعراق وسوريا واليمن وليبيا , وقد نجحت سياسة الوصول الروسية للشرق الأوسط باستخدام المخالب الإقليمية والقوة المفرطة في قطف ثمار سياسة الفوضى وتراجع الدور الأمريكي , إذ اصبح وجودها عامل ثابت وليس متحرك في التحولات السياسية بالمنطقة , وقد تمكنت من تحقيق شراكات اقتصادية وعسكرية وتسليحية مع دول عربية وإقليمية بما يوازي التواجد الأمريكي بل يتفوق عليه في جوانب أخرى مما جعل القرار السياسي العسكري في مسرح الشرق الأوسط مضطربا وقد القى بضلاله على العراق بشكل كبير لاسيما ان العراق اليوم يعاني من تردي واضح في كافة المجالات ومنها الخدمية الأساسية التي تعد من ابرز مهام الطبقة السياسية والبرلمان والحكومة .
برزت متغيرات جوهرية في الجيوبلتيك العراقي ولعل أبرزها النفوذ الإقليمي وظاهرة القضم الجيوبلتيكي للعراق وحرب المشاطئة وتدمير ثرواته المائية وتفكيك الهندسة المجتمعية العراقية الى مكونات واعراق متناحرة وفقا للمحاصصة السياسية التي ارساها الحاكم المدني "بول برايمر" ومبعوث الأمم المتحدة "الأخضر الابراهيمي" اللذان رسخا فكرة لبننة العراق مما أفقد العراق الكثير من عناصر الجيوبلتيك (الجغرافيا السياسية) وقد استنزفت موارده وقدراته فضلا عن غياب الديمقراطية والاستئثار السياسي بالسلطة دون إنجازات سياسية لصالح العراق وشعبه
شهدت مؤخرا مدينة البصرة احتجاجات سلمية واسعة مطالبة بتوفير الخدمات الأساسية وتطورت الى احداث دراماتيكية محدودة تمخض عنها حرق مقرات الأحزاب الدينية والاحتكاك بين المتظاهرين والقوات الحكومية فضلا عن حرق القنصلية الإيرانية والعلم الإيراني في تعبير شعبي ساخط ورافض للدور الإيراني وادواته السياسية والمسلحة في العراق , وبالرغم من اتساع الاحتجاجات التي لم تلقى استجابة دولية وعالمية وعربية بينما جرى التركيز على تشكيل الحكومة المقبلة بعد اختلاف الكتل على الرقم الأول في الرئاسات الثلاث الان الواقع السياسي العراقي بحاجة ملحة الى التغيير والتحول من دولة الأحزاب الى دولة المواطنة التي طال انتظارها بل وأصبحت مطلب شعبي كما رددها المحتجون ( نريد وطن)
يستمر العراق في دوامته السياسية والأمنية في ظل النفوذ الإقليمي وغياب التجديد السياسي , وتفاقم ظاهرة العسكرة للمجتمع العراقي وتجزئته الى مكونات فضلا عن عسكرة العشائر وبروز الكيان الموازي من الجماعات الفاعلة الغير حكومية , وكانت الرئاسة الأمريكية قد ذكرت في بيان لها انه "خلال الأيام القليلة الماضية شهدنا هجمات خطرة في العراق، ولا سيما ضد قنصلية الولايات المتحدة في البصرة وضد مجمع السفارة الأمريكية في بغداد" وقد حذرت من مغبة التمادي في ذلك , وكما يبدوا ان الحراك الأمريكي الإيراني يلقي بضلاله على المسرح العراقي نظرا لامتلاك الأخيرة وكلاء يستخدمون القوة بالإنابة عنها كما ذكر البيان الأمريكي , ووفقا لهذه المعطيات الصلبة والاحداث والصراع السياسي للأحزاب فان استقرار العراق امرا بعيد المنال فضلا عن أحلام النهضة والاعمار ومحاربة الإرهاب والفساد .
اذ يتطلب من المجتمع الدولي تفعيل مبدا المسؤولية الدولية والوعي الاستراتيجي وتقييم المخاطر , والحد من الاضرار واطفاء الحرائق الحالية التي تعد بمثابة مخاطر وليس تهديدات , وهناك فرق شاسع بين ثلاثية التقييم الاستراتيجي ( المخاطر ,التهديدات ,التحديات) كل حسب درجات الاسبقية والاولية , ولابد من مساعدة العراق على النهوض من ركام الحروب وحل النزاعات وممارسة الديمقراطية بشكل واقعي محترف من خلال مساعدته على تعديل الدستور وإعادة صياغته بما يضمن حقوق المجتمع العراقي بعيدا عن الممارسات الطائفية السياسية والمسلحة, وترسيخ قيم المواطنة العراقية وتحقيق الجودة في الأداء للعمل المؤسسي والسياسي وفق معايير الحوكمة, فضلا عن تشكيل محكمة دستورية مستقلة تتابع تطبيق الدستور من قبل الأحزاب والرئاسات الثلاث , والعمل على محاربة الفساد وتعزيز دور الدولة في حماية الحدود السياسية وإيقاف الظواهر المسلحة تحت أي مسمى كان بعيدا عن الطائفية السياسية الدينية التي استنزفت موارد العراق ومجتمعه كثيرا .
اصبح من الضروري إعادة ترتيب أوراق الشرق الأوسط ولعل من ابرز الأوليات هو تحقيق التوازن الدولي وتفعيل القدرات المتناظرة , وتنسيق الجهود لاستعادة الامن والسلم الدولي وضمان امن مستدام في المجال الحيوي الدولي والممرات البحرية شريان التجارة الدولية , فضلا عن انفاذ حقوق الإنسان (لان اذا تم بنيان الانسان يتم بناء الأوطان) , واجد ان كل من العراق وسوريا واليمن بحاجة الى معالجة حقيقية حتى تشرع المنطقة بعملية السلام وانسيابية الاقتصاد وتنمية الأسواق وتفكيك ضغوط الازمات المالية والاقتصادية التي تعصف بالعالم كنتاج لسوء السياسات الدولية, لاسيما ان استقرار العراق يحقق التوازن الإقليمي ويرسخ الامن والسلم الدوليين, وهذا يتطلب مسؤولية وطنية عراقية أولا ثم عربية ودولية لأجل ان يعود العراق كعنصر التوازن وصمام الأمان للشرق الأوسط وإعادة ترتيب أوراقه المبعثرة .
* رئيس مركز صقر للدراسات الاستراتيجية
إرسال تعليق
إرسال تعليق