يقول ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي) وهو احد اشهر وأهم فقهاء اللغة العربية وله عنها عدد كبير من المؤلفات منها: معجم مقاييس اللغة, مقدمة في علم النحو, مسائل في اللغة وغيرها, يقول هذا العالم الجليل ان الله سبحانه وتعالى عندما علم ادم الاسماء كلها (بما في ذلك طير السماء ووحش الفلاء) كما قال رحمه الله, وعرضها على الملائكة عند بدء الخليقة كان ذلك باللغة العربية التي كان يتحدث بها ادم عليه السلام قبل هبوطه الى الارض (أي انها لغة الجنة), وعندما تفرق ابناؤه في شتى بقاع الارض اختلفت لهجاتهم والسنتهم ومن هنا جاء اختلاف اللغات كما يقول ابن فارس, بينما ظل سيدنا ادم عليه السلام ومن بقي من ذريته في جزيرة العرب يتكلمون العربية التي علمها له الله سبحانه وتعالى بالإلهام, وكانت جزيرة العرب حصنا منيعا للغة العربية, حفظتها على مر الازمان بقوتها وتألقها وشموخها وعنفوانها وجمالها وسحرها منذ بدء الخليقة وحتى منتصف القرن السابع الميلادي تقريبا حيث كرس الله سبحانه وتعالى تشريفها وخلودها باختيارها وعاء لأقدس كتبه وأشرف دياناته ورسالة خاتم انبيائه, ولتكون رافعة لواحدة من أهم وأعظم حضارات البشر.
وتوخيا للموضوعية, لا بد من الاشارة الى ان هناك اراء اخرى تغاير ما ذهب اليه ابن فارس, منها مثلا ما يرى ان أقدم حضارة على وجه الأرض كانت حضارة السومريين في بلاد الرافدين نحو سنة 3500 قبل الميلاد (قبل عهدي سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام), وكانت لغتهم هي السامية (نسبة إلى سام بن نوح عليه السلام) والتي انحدرت منها اللغات السامية اللاحقة مثل العربية، الفارسية, التركية, الكنعانية, الأمهرية, الكردية, الكلدانية, العبرية, التيرينيغة, المالطية, الارامية (اشتقت منها السريالية) وغيرها الكثير، ويتحدث باللغات السامية الآن أكثر من 500 مليوناً من البشر معظمهم في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
على أي حال, هناك شبه اجماع بين علماء اللغة على ان اللغة العربية هي المستوى الاول الذي ينحدر منها لغات المستوى الثاني مثل اللغة الارامية (لغة افرواسيوية قديمة) والكنعانية (لغة قديمة لاهل فلسطين وغرب لبنان وجنوب غرب سوريا) والمؤابية (كانت تتحدثها قبائل شواطئ البحر الميت) بينما العبرية ذات 19 حرفا لغويا فتنحدر من هذه اللغات المشار اليها وهي بهذا تكون من المستوى الثالث كذلك الحال الساكسونية واللاتينية, أي ان هذه اللغات ضعيفة ولا تقارن باللغة العربية ولا تسطيع مجاراتها باي حال من الاحوال لانها غنية جدا بجذورها ومفرداتها وحروفها وامكانياتها الفنية والجمالية.
لا يكفي أن تكون اللغة العربية الفصحى من أقدم اللغات الحية في العالم، ولا يكفي أن نقول إنها أكثر اللغات السامية انتشاراً وأهمية، ليس للناطقين بها فحسب، بل لجميع المسلمين في العالم، إذ لا تصح صلاة أي مسلم دون أن يحفظ بعض سور وآيات القرآن باللغة العربية ليؤديها في صلاته, ولا يكفي أن نقول إن الأمم المتحدة اعتبرتها لغة أساسية في منابرها، وكرست يوم الثامن عشر من كانون الأول ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للاحتفاء بها، فكل ذلك يبقى ناقصاً ما لم يقترن بالكلام على جمال اللغة العربية كلغة منطوقة مكتوبة، لأنها، حقيقةً، تنفرد بجماليات لا تضاهيها أي جماليات في أي من اللغات أخرى.
صحيح أن الاهتمام باللغة العربية قد تراجع، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنها ليست لغة هامشية، فهي اللغة الرسمية لأكثر من عشرين دولة ويبلغ عدد الناطقين بها نحو نصف مليار انسان كما اسلفنا بحيث تأتي في المرتبة الرابعة في ترتيب اللغات المستخدمة في العالم بعد الانجليزية, الماندرين (الصينية) والهندية وقبل كل من الفرنسية والروسية والإسبانية.
مقارنة باللغات التي تحتل المراتب الثلاثة الاولى نجد ان اللغتين الصينية والهندية لغات محلية يقتصر استعمالهما داخل نطاق جغرافي وديمغرافي محدود, اما بالنسبة الى اللغة الانجليزية على الرغم انها اللغة الاولى عالميا ويتحدث بها ربع سكان الكرة الارضية تقريبا, الا ان مكانتها هذه جاءت نتيجة لظروف استعمارية وسياسية قاهرة خلقتها قوى عالمية غاشمة, اذ فرضتها على الكثير من مناطق العالم وخصوصا في القرنيين الماضيين, وليس لعوامل قوة ذاتية تتمتع بها الانجليزية, بل على العكس, كما يقول الدكتور عبد المجيد عمر مؤلف كتاب منزلة اللغة العربية بين اللغات المعاصرة "ان اللغة الانجليزية لم تكن مفهومة قبل حوالي 3 قرون", وعلى الرغم من ان الانطباع السائد بين الناس ان اكثر من85% من المصطلحات العلمية والطبية والهندسية, والتقنية وغيرها تدار بهذه اللغة, الا انه بحسب دراسات لغوية ثبت ان اكثر من 80% من هذه المفردات أصلها من لغات اخرى منها اللاتينية والعربية.
وفي سياق ذا صلة, فقد ورد في قاموس اكسفورد طبعة 2010 وهو اشهر واهم واكبر قواميس اللغة الانجليزية ان عدد مفردات تلك اللغة لم تتعد 600 الف مفردة, والمفارقة ان 52% منها مستعارة من 82 لغة اخرى منها العربية ايضا, ومفردات اللغة الفرنسية حوالي 150 الف مفردة بحسب واحد من اكبر قواميسها (le petit Robert), في حين ان مفردات اللغة العربية يتجاوز 12 مليون مفردة غير متكررة احصاها في القرن الثامن الميلادي العالم الجليل الخليل بن احمد الفراهيدي مؤسس علم العروض واحد أهم واشهر ائمة اللغة العربية وشيخ كل من سيبويه والاصمعي والكسائي وابن اسحق وغيرهم, واكثر من نصف تلك المفردات يستعمله الناطقون بها بانتظام في حياتهم اليومية.
رغم ثراء اللغة العربية الفاحش وجمالها المبهر وقوتها الهائلة, الا أنها تواجه تحديات خطيرة بعيدة عن طبيعتها, منها مثلا كون اللغة العربية وعاء دين وحضارة وثقافة العرب والمسلمين ورمز وجودهم, فإنها مستهدفة من قبل اعدائهم وما اكثرهم حيث يدركون قوة وخطورة اللغة العربية وما تشكله كمنافس خطير بالنسبة الى لغاتهم وثقافتهم وشخصية مجتمعاتهم ويحسب له ألف حساب, ومنها ايضا اسباب تتعلق بابناء تلك اللغة, فمثلا هناك شريحة منهم وخصوصا الذين تلقوا تعليمهم في الغرب تراهم لا يتعصبون للغتهم كما يجب ولا يتفاخرون بالانتماء اليها, بل على العكس, في كثير من الاحيان ينحازون ضدها, بل الكثير منهم يميلون الى استعمال لغات اخرى اكتسبوها اثناء فترة تعليمهم ويعتبروا الحديث بلغة اجنبية او تطعيم حديثهم بكلمات غير عربية هو مؤشرا على مدى علو درجتهم وعمق ثقافتهم ورفعة مستوياتهم العلمية, ولكن الحقيقة غير ذلك, اذ أرجعت دراسة على هذه الظاهرة السبب الى تواضع في مخزون هؤلاء اللغوي والقصور في سلامة اتقانهم لإمكانيات اللغة مما يحد من قدرتهم على نقل المفردات والمصطلحات من اللغات الاخرى الى ما يقابلها في لغتهم الام, وفي نفس السياق هناك العديد من المؤسسات الرسمية عربية واسلامية الصفة والشكل تهمش اللغة العربية (ان كانت البعض منها يعتبرها لغة رسمية له شكلا ولكن ليس واقعا) وتناصر عليها لغات أجنبية تعتمدها في كافة تعاملاتها الداخلية والخارجية وبالطبع على حساب العربية.
وهناك عامل اخر مهم, ويتمثل في محدودية الانتاج الفكري والابداعي باللغة العربية وتفاعلها العلمي والوجداني مع الثقافات الاخرى وتعمد تهميشها من قبل الحضارات المعاصرة, فمثلا بحسب بعض التقديرات، لا يتجاوز عدد كتب الثقافة العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي الـ5000 عنوان (مقابل 300 ألف في أمريكا مثلاً)، كما أن العالم العربي لا يترجم سنوياً إلا خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصغيرة، أي ان عدم استطاعة العرب مجاراة النتاج التكنولوجي والفكري والثقافي والعلمي من حولهم ادى الى اتهام لغتهم بالقصور وهذا غير صحيح بالمطلق, فبالأمس كانت ناقلا للحضارة الاسلامية وهي واحدة من أهم وأعظم الحضارات الانسانية.
اخر الكلام:
ليس صدفة ان يشرف الله سبحانه وتعالى اللغة العربية ويختارها لتكون لغة القرآن الكريم والدين الاسلامي الذي هو للعالمين كافة وبالتالي تكون لغة لهم, ولكن كونها لغة هائلة القوة وفائقة الامكانيات فكانت الانسب والاقدر على اداء استيعاب هذا الدين العظيم وكتابه الكريم وما تبعهما من علوم وثقافة وحضارة, هذه هي الرسالة الاهم في تاريخ البشر, لذا فقد حظيت لغتنا العظيمة بهذه المكانة الرفيعة وغدت ذات هيبة وقداسة.
إرسال تعليق
إرسال تعليق