عمر حلمي الغول
العلاقات بين الدول لا تقوم على المبادىء والقيم، انما ترتكز على لغة المصالح. ولا يوجد في العلاقات السياسية والديبلوماسية والإقتصادية والأمنية بينها عدو دائم، ولا صديق دائم. فالعلاقات تتغير بتغير اللحظة السياسية، وأثر ذلك على المصالح البينية. ومن يدعي التمسك بالمبادىء، فهو إدعاء لفظي وكاذب تفضحه الوقائع والشواهد ولو بعد حين.
هذا المدخل له عميق الصلة في العلاقات الثنائية الروسية التركية، والقمة الثلاثية الأخيرة (7/9/2018)، التي جمعت الرئيس الإيراني، حسن روحاني، والرئيس فلاديمير بوتين، والرئيس رجب طيب اردوغان في طهران، التي بق فيها القيصر الروسي البحصة، كاشفا الآعيب السلطان العثماني الجديد.
لو توقفنا أمام العلاقات الروسية التركية منذ نوفمبر 2015، نلحظ أنها وصلت حد الإصطدام بعد إسقاط الطائرة الحربية الروسية في 24 نوفمبر 2015، ثم إغتيال السفير الروسي، كارلوف نهاية 2016 في إستنبول، غير ان الدب الروسي بطىء الخطى كثيرا، رغم انها عادة بطيئة، وأخذ نفسا عميقا، وإنتظر حتى إعتذر سلطان تركيا الجديد، ليس هذا فحسب، بل وذهب أبعد من ذلك، حيث أعطى الزعيم الروسي من معسول الكلام ما طيب خاطره، وأعاد المياة الدافئة إلى مجاريها بين البلدين، وقدم تنازلات محسوبة ونسبية في سوريا بعدما أشهرت الولايات المتحدة في وجهه (أردوغان) سيف الأكراد، وقدمت لهم الدعم السياسي والعسكري والمالي، وأقامت لها قواعد في القامشلي والحسكة السورية المحاذية للحدود بين البلدين.
بقيت العلاقات بين البلدين تتسم بالطابع الإيجابي إلى ان إقتربت معركة إدلب الراهنة (2018) بعد إستعادة نظام بشار الأسد السيطرة على الجزء الأكبر من الأراضي السورية، وتم عقد أكثر من لقاء بين القيادتين التركية والروسية، ووضعت آليات للتعامل مع الجماعات التكفيرية للفرز بين مكوناتها، ما يمكن ان تسمح له السلطات التركية العبور لإراضيها، وما لن تسمح لها أن تطأ حدودها، لإنها تشكل تهديدا لإستقرارها، حسب تأكيدات مسؤوليها في الإجتماعات المغلقة، ووعد الروس ان يفتحوا ثغرة لإنسحاب بعض تلك الجماعات للأراضي التركية، بهدف تصفية البؤر الأخرى تصفية تامة، لإن إنسحابها يشكل تهديدا لروسيا وأوروبا وحتى أميركا. غير ان الرئيس اردوغان عشية القمة الروسية الإيرانية التركية، أخذ في التراجع التدريجي عما إتفق عليه مع الروس والإيرانيين، ورفع وتيرة الصوت السياسي والأعلامي ضد نظام بشار الأسد، وإلتف إلتفافة بلغت 180 درجة في الإتجاه المعاكس، وعاد لتحالفه التاريخي مع أميركا وأوروبا، وأرسل السلاح والعتاد لكل الجماعات التكفيرية في إدلب، ودعا لنفض اليد من إتفاقيتي جنيف وسوتشي، حتى انه حاول ان يؤجل موعد إنعقاد القمة الثلاثية، عندما أرسل مدير مخابراته في زيارة سرية لطهران لهذا الغرض قبل يومين اي في 5/9/2018، غير ان التنسيق الروسي الإيراني قطع الطريق على الرئيس اردوغان.
السبب في التهرب التركي من مبدأ عقد القمة، الحرص على إستثمار العلاقات مع الروس والإيرانيين السياسية والإقتصادية دون الإلتزام بما تم الإتفاق عليه بشأن الملف السوري، الذي هو مصلحة إستراتيجية روسية وإيرانية. لكن من يعرف الرئيس بوتين، لا يعتقد أن رجل ال (ك جي بي) يمكن ان يؤخذ على حين غرة، أو تلعب به العواطف، أو يمكن ان تمر عليه الفهلوة الأردوغانية. لذا مع بدء اعمال القمة، وبعد الكلمة الإفتتاحية للرئيس الإيراني روحاني، طلب الحديث اردوغان خارج جدول الأعمال، وتحدث بنبرة متعالية وفوقية محملا نظام الأسد الإبن المسؤولية عما آلت إليه الأمور، وحسب ما جاء في حديثه، فإن الأسد سيستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد المعارضة، وان تركيا لن تسمح بذلك، بإختصار شديد، نفض السلطان يديه من كل ما تم الإتفاق عليه، الأمر الذي دفع الرئيس بوتين لإخذ الكلام، وتحدث بقسوة غير مألوفة، وغير ديبلوماسية مع الرئيس التركي، حتى انه اسقط في يده، وقال له " الآعيبك باتت مكشوفة، ولم تنطلي على أحد. وعندما تتحدث أمام رئيس روسيا أخفض صوتك، وأنا تغابيت عمدا، ورضيت التساوق مع مناوراتك. رغم أني أعرف مراميك جيدا. ومعركة إدلب سنخوضها حتى النهاية، ولن نسمح لا لك ولا للولايات المتحدة العبث بمستقبل سوريا، والجماعات التكفيرية نحن الذين اقنعنا الأسد بتجميعها في إدلب للقضاء عليها نهائيا." على إثر ذلك رفعت جلسات القمة، وطالب الرئيس اردوغان عقد قمة روسية تركية عاجلة لمعالجة التدهور الحاصل، وكذلك طلب ايضا قمة ثنائية مع الرئيس روحاني. حتى بات 7/9 تاريخا فاصلا بين مرحلتين.
بوتين خلع القفزات الديبلوماسية من لغته، ولبس ثوب القيصر القابض على مقاليد الأمور في الإقليم، وبين اقطاب المثلث االروسي الإيراني والتركي، ووضع أردوغان في زاوية معتمة، حيث صمت صمت أهل الكهف، ولم ينبس ببنت شفة، وفوجىء بالطريقة، التي تصرف بها الرئيس الروسي عندما خلع جاكيته وشمر أكمام قميصه. والنتيجة ان اللعبة التركية في اللحظة الراهنة إنتهت، ولم تعد تنطلي على أحد. ولكن هل العلاقات الروسية التركية توقفت، اعتقد انها لن تتوقف، وستتواصل بطرق وأساليب أخرى وفقا للمصالح المشتركة بينهما. دون ان يتخلى اي من الطرفين عن مصالحهما الخاصة، فأولويات روسيا تتمثل بتصفية الجماعات المسلحة في إدلب، وسيطرة نظام بشار على اراضي الدولة السورية وفق منطق وتكتيك "المدحلة الروسية". وهو ما يشير إلى ان المواجهة الجارية على الأرض السورية قد تمتد إلى كل الإقليم شاءت الأطراف المتناحرة أم أبت، وقد يكون إمتدادها أعمق من ذلك بكثير، لا سيما وان العالم مازال يعيش مخاض الفك والتركيب، وإعادة تقسيم النفوذ.
ملاحظة صغيرة: يسجل البعض ملاحظة على طول المقال، ورغم إحترامي لإراء هؤلاء، فإني أؤوكد لهم، اني لا أنحو نحو اللغة الإنشائية، ولا يوجد إطالة حقيقة عندما تكون المقالة من 500 كلمة أو تصل لما يزيد عن ذلك قليلا، اضف أني أعتمد منهجا يقوم على المعلومة المدعمة بالتحليل والإستنتاج. ومع ذلك أهلا وسهلا بمن يقرأ، وأهلا وسهلا بمن يستنكف، فهذا حق لكل إنسان.
Oalghoul@gmail.com
a.a.alrhman@gmail.com
إرسال تعليق
إرسال تعليق